رواية " أرض الصالحين"..
رحلة بني قُدامة من نابلس الى دمشق..
للكاتب المُبدع الدكتور هيثم شبلخ..
عالصّالحيّةِ يا صالحة..
ما أصلُ هذهِ الأغنية الشعبية التي تُغنّى في أفراحِ حاراتِ الشامِ القديمة؟ وما السرُّ وراء تشابه حارات نابلس القديمة بحارات دمشق وكأنهما توأمتين؟
في هذه الرواية التاريخية الرائعة يكشفُ لنا الكاتبُ كلَّ هذا ويأخذنا في رحلةٍ عبر الزمن الى القرن السادس الهجريّ الى القدس أوّلاً والتي كانت لازالت تحت الحكم الفاطميّ العبيديّ وكان هناك شيخٌ اسمه قُدامة بن مقدام بن نصر بن عبدالله المقدسيّ من بلدة جمّاعيل" جماعين" قضاء نابلس قد التقى بالشيخ الشيرازي الحنبليّ القادم من بغداد فعملا على نشرِ المذهبِ الحنبليّ فنحنُ نعلم ان الفاطميين هم شيعةٌ يبغضون المذاهب السنيّة؛ بعد وفاةِ الشيخ قدامة خلَفه ابنه احمد بن قدامة الذي درس علوم الشريعةِ في دمشق وعاد الى نابلس ليعلّم الناسَ تعاليم دينهم وحينَ ضعفت الدولةُ الفاطميةُ اغتصبَ الفرنجةُ بيت المقدسِ ودنّسوهُ بحوافرِ خيولهم وقتلوا الناسَ بدمٍ باردٍ حتى صارت الدماءُ للرُّكَب وسبوا النساءَ وأسروا من نجى من الموتِ بأعجوبة وحوّلوا المسجد الأقصى لكنيسةٍ تدقُّ فيها الأجراسُ ويعلوها الصليب وجعلوا قسماً منهُ اسطبلاً للخيول فأيُّ ذُلٍّ وأيُّ هوانٍ لأمّةِ المسلمين؟
وكان الشيخُ أحمد من موقعه يدعو الناسَ الى الجهاد ويبشّرهم بأنّ المسجد الأقصى لن يلبثَ ان يتحرّر من الدنس فهذا قولُ رسولنا الكريم لكنّ صلاحَ الأمرِ وتحقيقه يبدأ من صلاحِ الدين؛ وصلت أنباءُ الشيخ الى ملك القدس الصليبيّ فقرّرَ التخلصَ منه؛ فلم يجد الشيخُ بُدّاً من الفرارِ بأهلهِ ودينه الى دمشق التي صارت تحت إمرةِ الملك العادل نور الدين زنكيّ..
رحلةٌ مليئةٌ بالمخاطر والخوفِ على النساءِ والأطفالِ من العيونِ وقُطّاعِ الطرق لكنَّ اللهَ قدّر لهذه الجماعةِ المؤمنة أن تصلَ آمنةً الى دمشق وجعلَ بينهم سدّاً فأغشاهم فهم لا يُبصرون..
أقامَ الشيخُ بأهلهِ في وقفِ مسجد أبي صالح في دمشق وبدأ ينشرُ تعاليم الدين والمذهبِ الحنبليّ لكنّ سوء الحالِ والفقرِ والجوعِ أودى بحياةِ بعضٍ من أهله ووُلدت له حفيدةٌ اسماها صالحة فكانت أولُ من وُلدَ من آل قدامة في الشّام فكانت صالحة الشاميّة المقدسيّة التي سيكون لها شأنٌ عظيمٌ فيما بعد..
ظنَّ بعضُ الباغضينَ انّ آل قدامة ينافسونهم في أرضهم ورزقهم فشكوهم الى الملك العادل نور الدين زنكيّ الذي جعلَ المسجدَ وقفاً للشيخ أحمد بن قدامة لكنّهُ رفض ذلك خوفاً من نشرِ بذور الفتنةِ والشقاقِ والنّزاع فاختار أن يسري بأهلهِ الى أعالي جبل قاسيون المُشرفِ على دمشق واتّخذَ من دير الحنابلةِ مأوىً لهُ ولجماعته وأصبحَ المكانُ عامراً بالبيوتِ والمساجد وأطلقَ الناسُ على المكان اسمَ " الصالحية" لصلاحِ أهلها فهي أرضُ الصالحين..
وتوفيّ الشيخُ أحمد وخلَفهُ ابنه أبي عمر ونهجَ نهجَ أبيه وكانت ذريّةُ الشيخ أحمد وإخوته وخواته كلّهم من حفظة القرآن دُعاةً لنهجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشرينَ للمذهب الحنبليّ ومن ثمّ أدخلوا المذاهب الأخرى وألّفَ موفّق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة كتابه " المُغني" وهو مستودعٌ في المذهب الحنبليّ وغدا من أشهرِ كتب الفقهِ الاسلاميّ كما ونشروا المساجدَ والمدارسَ الفقهيةَ ومدارسَ الحديث الشريف وكان للنساءِ دورٌ عظيم فصالحة ورقيّة الحافظاتِ لكتابِ اللهِ أنشأتا مدرسةً لتعليم النساء وكانت أوّل مكانٍ مخصصٍ لتعليم النساءِ أمورَ دينهنّ وغدَت الصالحيةُ من بقعةٍ مهجورةٍ جرداء الى مرتعٍ لتعليمِ الدين والفقه والحديث يقصدها الناسُ من كلّ مكان فسبحان الله الذي سخّر لهؤلاءِ اللاجئين الفارّين بدينهم كلَّ هذا الشرف الذي خلّد اسمهم في التاريخ..
وكان نورُ الدين زنكيّ وزوجته عصمت الدين خاتون من روّادِ مساجدهم ودور تعليمهم ولا ننسى دورَ الملكِ العادل في تحرير بيت المقدس وجاءَ بعده السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبيّ الذي قضى على الدولة الفاطمية في مصر وصارت البلاد تحت خلافة الدولة العباسية فالدولة الزنكية كانت تحت راية العباسية ومن ثمّ أنشأ صلاح الدين الدولة الأيوبية ومكّنه اللهُ من تحرير بيت المقدس بعد حصارٍ دامَ أسبوعاً وشاركَ معه آل قدامة في حربِ التحرير ودخلَ بيت المقدس فاتحاً ولم يعث فيه فساداً كما فعل الصليبيون قبل تسعين عاماً بل كان رحيماً متسامحاً مع أهله فمنهم من افتدى نفسه ومنهم من فداه السلطان الناصر وعاشوا في كنف الاسلام ووضعَ السلطان الناصر منبرَ نور الدين زنكيّ في المسجد الأقصى كما أراد الملك العادل رحمه الله وهكذا وحّدَ السلطان الناصرُ مصرَ والشامَ واليمنَ وكلّ البلاد تحت راية الاسلام..
وعادَ آل قدامةَ الى مقدسهم يقبّلونَ ترابها ويذرفونَ دموع الفرح دخلوها آمنين بعد ان فرّوا منها قبل ثلاثين عاماً خائفين مترقّبين..
لكنّ الحنينَ لياسمين دمشقَ عاوَدهم فعادوا الى الصالحية ليكملوا مشوارهم الذي بدأه شيخهم أحمد بن قدامة..
وبقيَ جزءٌ منهم في نابلس وتأثروا بالبيوتِ الدمشقيةِ وياسمينها فصارت حارات نابلس توأمةً لمثيلتها في دمشق..
بقيت الصالحيةُ عامرةً مزدهرةً بعلومِ الدّينِ حتى جاء المغولُ فدمّروها لكنّ أهلها أعادوا بناءها وبناء مساجدها ودورَ علمها ولا زالت آثارهم شاهدةً عليهم الى الآن..
ما أجملَ التاريخَ حينَ يخطّ سطوره كاتبٌ مبدع فيجعلكَ أسيراً لكلماته مأسوراً بها حافظاً لتفاصيلها..
ولكلِّ شيءٍ حولنا حكايةٌ يجبُ ان نبحث عنها..