(مذكرات مريض نفسي "٢٦") بقلم: سعد السعودي...

 

-زحفت شمس الأصيل ببطء نحو الغروب، وتفرقت نسائم الشتاء الباردة تنعش الأفئدة والأبدان، ولت العصافير مزقزقة فوق الأوكار استعدادًا للمبيت، غشيني الحنين إلى مثل هذه الأجواء في شتاء بلدة كنت أعمل بها وأقيم، لم أدر بنفسي إلا حين قادتني قدماي إلى هناك، تراءت لي مئذنة المسجد ساكنة مكتسية بالصمت، وقبته شامخة كأنما تتحدى المارة بأن هنا راحة كل متعب ودواء كل مبتلى، هذه القبة لطالما بكيتُ أسفلها فتكتنفني الراحة، أنّات ودعوات كانت تتصاعد مني إلى ذي الجلال فيجبرني، لطالما بحت بأسرار هنا لم أستطع التعبير عنها بيني وبيني.
هذه الأزقة التي اعتدت السير بها رفقة كهل بشوش كان يربت على قلبي ويهون عليّ الصعاب ويخبرني أنها ستمر، هذه الحقول كنا نتجول بينها لتشاركنا أوجاعنا، لم نكن نمتلك حينها رفاهية السفر والتنقل إلى أماكن بعيدة أو التخلي عن أشياء تؤذينا، لكنني اكتشفت أن الراحة تكمن في البساطة والهدوء والسلام النفسي، شجرة العنب المعترشة هذه كانت أول شاهدة على الندبة التي لا أتذكر عددها، لكن وجعها ما زال يترك وشمًا لا يمحى، حينها بكيتُ وحيدًا عندما فقدتُ حلمي، احتضنتني تلك الشجرة وقتها وصارت رفيقتي لأعوام، هذا الكوخ المتهالك لطالما عانقني وزمل روحي وقت فراق الرفاق وتخلي الخلال، تدفقت الذكريات إلى داخلي كتدفق المياه في القنوات، هنا آثار قدمي ما زالت محفورة في كل خطوة خطوتها، هنا قطعت نصف عقد من العمر بين ألم وفرح وحزن ووجع، هنا تعلمت كيف أجتاز الصعاب، وأدركت أنها تسهل وتمضي بوجود رفيق مخلص يقاسمنا الألم، أنا مدين للماضي رغم قسوته لأنه علمني ألا أكرر الأخطاء وعلمني كيف أنتقي الرفاق، مدين لكل الأماكن والرفاق التي تشاركني وقت تيهي وبعثرتي، أنا مدين لكل من شاركني وحدتي وإن كان حجرًا لا يسمع ولا يبصر.
#مذكرات_مريض_نفسي
#سعدالسعودي

تعليقات