قصة: "انتقام نملة" بقلم خالدأبو جمال...




 صرخات ألمٍ تخلعُ القلوبَ زلزلت أركان أحد المستشفيات، صرخها رجل يبلغ من العمر أربعون عامًا، اقترب منه الطبيب وحقنه
 بالمهدئ، فهدأ المسكين قليلًا ثم غطَّ في النوم، اجتمع رئيس المستشفى بالفريق الطبي المسؤول عن المريض؛ لرؤية تشخيصه، قال الطبيب المسؤول عنه: «من الواضح أن هناك أمرًا لن نستطيع علاجه». 




نظر له الطبيب الأكبر سنًا -رئيس المستشفى- ثم قال له مستهزئًا: «ما الذي يحدث أيها الطبيب؟ ولماذا لا تستطيعون تخليص المريض من آلامه؟ لقد مضى على وجوده هنا أكثر من شهر والمريض حالته في تدهور مستمر، لقد تناقلت وسائل الإعلام والصحافة أمره حتى أصبحت سمعتنا سيئة للغاية، ما هي العلة التي جاء بها وأنتم غير قادرون على معالجتها؟» 

- «نملة يا سيدي». 

نظر له الطبيب المسؤول بامتعاض ثم نهره قائلًا: «أريد تشخيصًا طبيًا أيها الطبيب». 

- «أقسم لك يا سيدي أن السبب في كل ذلك نملة، لقد زرعنا كاميرات وحساسات لرصد حركة الشيء الذي يعبث بالداخل، فأظهرت لنا الكاميرات وجود نملة داخل الأذن، حينما جاء لنا المريض كانت أمام طبلة الأذن تحاول اختراقها، وحينما زرعنا الكاميرا وجدنا أنها قد ثقبت فُتحة تستطيع المرور منها، لكنها لم تمر وأكملت تفتيت جدار الطبلة بالكامل؛ وكأنها تتفنن بتعذيبه، كانت كلما شعرت بأن المريض هدأ وسكن تثور داخل أذنه حتى تسمع صوت صراخه متألمًا، وكأنه يجلد بسوطٍ مضفورٍ». 

- «وكيف مرت النملة من شمع الأذن؟». 

- «لا نعلم، إنها حالة فريدة من نوعها، لقد بحثت في كل مدونات الطب العالمية ولم أجد مثل هذه الحالة». 

- «هل جربت قتلها أو سحبها؛ بمادة أو بأجهزة الليزر؟» 

- «نعم، حاولت فعل ذلك، وهذا ما أثار جنوني ورعبي في الوقت ذاته، النملة تدافع عن نفسها وكأنها تملك درعًا حربيًا تقاومنا به، ولا تكتفي بذلك فقط، بل تشق طريقها إلى المخ بأصعب طريقة مؤلمة للمريض». 

- «كيف استطاعت فعل كل ذلك؟ الأذن محمية جيدًا من مثل هذه الظروف والحشرات». 

- «نعم، بالفعل، الأذن محمية جيدًا، لكن لا نعلم كيف استطاعت المرور من بين الشمع وشعيرات الأذن، وخرق طبلة الأذن والولوج للغرفة المغلقة المبطنة بالعظام السميكة التي تنخر بها الآن؛ لتصل إلى المخ، من الواضح أننا أمام معجزة تحدث». 

- «أين أهله؟ وفواتير المستشفى من يدفعها؟». 

- «لم نستدل على أي معلومة تخصه، لقد جلبته سيارة الشرطة إلى هنا، ولا يردد إلا كلمة "أختي" قبل أن تبدأ النملة العبث بأذنه، وبالنسبة لفواتير المستشفى فقد طلبت تأجيل دفع المصروفات الخاصة به لاكتشاف ماذا يحدث معه». 

- «أي هراء هذا؟ نحن الآن لا نعرف أهله، وغير قادرين على علاجه ولا تحصيل فواتير وجوده هنا، ولا تريد رميه خارجًا بسبب أن سيادتك تريد مشاهدة النملة وهي تقتله، ثم ندخل في ملابسات مع الشرطة! أمامك ثمانٍ وأربعون ساعة لتحل هذه المشكلة بأية طريقة، يكفينا ما وصلنا إليه، هيا...اذهبوا إلى أعمالكم الآن». 

أومأ الطبيب برأسه إيجابًا ثم نهض ولم يُبد أي اعتراض أو تمعض من كلام رئيسه؛ فهو لم يكن المسؤول عنه فقط، بل والده أيضًا، أخذته الحماسة ووعد نفسه أن لا ينام في الثمان والأربعون ساعة القادمة إلا بعد أن يعرف علة مريضه ويعالجه. 

قطع أحد الممرضين شروده بقوله: «لقد أفاق المريض واستطاع الكلام، وهو يطلب حضورك». 

هرول الطبيب لغرفة المريض، وصل إليه ثم جلس أمامه وانتظره ليتحدث، فقال المريض بأسف: «أختي يا سيدي». 

- «ما بها؟». 

- «لقد ظلمتها واستحوذت على ميراث أبي وحدي، نهبت حقها وهي مريضة سكر وكانت في أمس الحاجة للمال؛ لتتعالج به، لكنني كنت جشعًا وأنانيًا، رميت لها بعض الملاليم مدعيًا أنه نصيبها من الميراث». 

- «يا لك من وغد! الآن فهمت أمر النملة، إنها ليست مجرد نملة، بل هي عقاب من الله؛ لتصنع منك عبرة». 

- «نعم، نعم، معك حقٌ في كل ما تقوله، لكنني أريد منك معروفًا، أرجوك، أريد منك أن تذهب إليها في قريتنا وتأتي بها إلى هنا؛ لتسامحني، أريدك أن تخبرها بأنني سأكتب لها كل حقوقها كما أمر الله، وسأعوضها عن كل ما مضى».

- «سأفعل إن شاء الله، لكن المستشفى أيضًا لها حقوق، وإن لم تدفع سيطردونك، وأنا لن أقدر على مساعدتك بعد الآن». 

- «سأسدد كل المصروفات، سأكتب لك رقم البطاقة الائتمانية والرقم السري واسحب منها كل ما تشاء، لكن أرجوك أذهب لأختي بأسرع وقت». 

أملاه العنوان الذي تقيم فيه أخته، ثم صرخ صرخة مدوية كادت أن تهدم المبنى من شدتها، نظر له الطبيب برعب وهو لا يحرك ساكنًا، أيقظه من شروده صوت الممرض وهو يقول له: «أنظر إلي الشاشة؛ لقد اخترقت النملة العظام السميكة واقتربت من الوصول إلى المخ يا دكتور». 

نظر الطبيب إلى الشاشة التي ترصد تحركات النملة وهو غير مصدق لما تراه عينيه، إنها ليست نملة عادية، وكأنها الخضر الذي ظهر لسيدنا موسى -عليه السلام- أرسله الله ليعلمنا درسًا قاسيًا لن نرى مثله في حياتنا. 

حقن الطبيب المريض بالعقار الذي يهدأ من آلامه، ثم هم بالمغادرة سريعًا؛ ليذهب إلى أخته قبل فوات الأوان. 

خرج الطبيب مُسرعًا من المستشفى، ثم استقل سيارته واتجه إلى العنوان الذي أعطاه له المريض، بعد ساعتين من الزمن عاد الطبيب إلى المستشفي خالِ الوفاض، رجع وحيدًا تعلو وجهه ملامح الهزيمة والانكسار، دخل على المريض وانتظره أن يفيق من خُدرهِ، بعد بضع دقائق فاق المريض وهو في حالة يرثى لها، ترتسم على وجهه علامات المرض والألم المرير الذي تُذيقه له النملة منذ شهر، نظر إلى الطبيب ثم قال: «أين هي؟ أين أختي؟»

- «لم تأتِ معي». 

- «لا، لا، أرجوك يا سيدي، حاول مرة أخرى». 

- «لن أحاول؛ فأنت كاذب ملعون، بطاقتك البنكية فارغة من النقود، ومصروفات المستشفى كلها أضيفت على عاتقي، سأظل عامين أسدد فيها من مرتبي الهزيل». 

- «أنا آسف، حقًا آسف، لقد خسرت كل أموالي في المراهنات، أعدك أنني سأقترض المال لأسدد لك كل الديون حينما أخرج من هنا، لكن أرجوك اذهب إلى أختي مرة أخرى». 

- «لن يجدي ذهابي إلى هناك نفعًا». 

- «لماذا؟». 

- «لأن أختك توفت منذ شهر بنوبة سكر شديدة». 

صرخ المريض، لكن ليس على رحيل أخته، بل من الألم؛ بسبب ما تفعله النملة، جاء الممرض من خلف الطبيب؛ ليسأله إن كان عليه أن يجهز العقار الذي يحقن به المريض ليهدئ من آلامه، فصمت هنيهة ثم هز رأسه نافيًا، والتف بالكرسي الذي يجلس عليه ليبقى مواجهًا لشاشة رصد النملة، وعقد يداه خلف رأسه ثم أتكأ للخلف، ناظرًا للنملة ليراها وهي تأكل خلايا مخ المريض. 

تمت بحمد الله..... 

#انتقام_نملة.

#خالدأبوجمال...

تعليقات