(مذكرات مريض نفسي "٨") بقلم الكاتب: سعد السعودي...



 أصدقائي الأعزاء، محبتي وريحان، على غير العادة أكتب دون روح وآملُ أن تسعفني الكلمات هذه المرة أيضاً، فمعشر الكتاب لهم أمزجة متغيرة بين لحظة وضحاها، أما بعد فإنه حين يخذلني العالم بأسره أهرع إلى قلمي، تراه خذلني هذه المرة فأي كلمات ترثيني وأي حصنٍ آمنٍ أهرع إليه؟! إن فتور الكتابة يُشبه مخاض مَن فقدت جنينها بعد سنوات من العقم، فعلام تحزن والحزن متفرق على خسارات متعددة؟

إن البؤسَ القابع في أعماقي يكمُن في أن رفاقي المخلصين أشد بؤسًا مني، والزائفون ومدعو الود - وما أكثرهم- يعيشون في عيش رغد؛ فقلوبهم لا تعرف الحب واقتسام الألم والحزن، أما نحن فنحاول - بلا عزم- مداواة جراحنا شتى وجماعات، ذلك العالم الافتراضي أنا مدين له لأنه جمعني بأنقياء بؤساء مثلي، كنا نشم رائحة قلوبنا تحترق فنتجمع دون سابق معرفة نواسي بعضنا ونبكي حداداً على ما حُرمنا منه، صديقتي السورية التي تُخبئ لي في ثنايا قلبها جُل المحبة والود؛ كنتُ على يقين من أن ثمة معضلة ستُبدد السلام الذي سكن فؤادي مُذ عرفتها، ففقير حظ مثلي إن أهدته الأقدار شيئا ثميناً ظنه فخًا.

(زلزال مدمر يضرب جنبات البلاد، وضحايا تحت الأنقاض لا حصر لهم).

هكذا كانت عناوين الصحف العالمية في صباح يوم عبوس، فركت عيني غير مصدقٍ لما أرى، غشيني الذهول وتضاربت الأفكار السيئة في رأسي الأحمق، سرعان ما أخرجت هاتفي لأتصل بصديقتي، كنتُ أشعر أثناء حديثنا أمس أن خطبًا ما سيحدث، ولأنني بارع في تخيل النهايات المفجعة؛ كنت أتشبث بها بيني وبيني ألا تتركني البارحة فأختلق الأحاديث.

 انهيار، بكاء، حديث غير منظم ولا مفهوم، رائحة الموت تتخلل أنفي إثر الصراخ والكلمات المبعثرة، لم يكن الموقف يستدعي الأسئلة فعقلي صوّر لي المشهد بعناية، كان البيتُ يتراقصُ ككل البيوت من حوله، سفينةٌ محطمةُ الأشرعة داهمها موج غادر متلاطم فتأرجحت كريشةٍ يتلاعب بها الهواء يمنة ويسرة وربانها بلا حول ولا قوة، الأبنية تتحول في غمضة عين إلى خراب، وتراكمت الأتربة بالأزقة، والجثث راقدة بلا حراك، انتظار الهلاك المحتوم قبل حدوثه أشد ألمًا من الهلاك ذاته! لم أكن معها وقت الحادث المفجع وقت أن كانت الظنون تضرب عقلها وحيدة في خضم الحيرة والذعر، وهاجسُ الفناء يدبُ أوصالها وأنا لست هناك!

 بين اليقظة والنوم تدمرتْ أشياء وشخوصٌ وأحلام وحضارة، مشهد مهيب مَن مات به خير ممن بقي ميتاً على قيد الحياة المقفرة، سنوات من الحياة أضحت مقابر مظلمة يسودها الذعر من كل جانب.

حمدتُ الله أن صديقتي بخير لكن يبقى السؤال: أنى سيُمحى هذا المشهد من ذاكرتها؟ أي طمأنينة قد تتسلل إلى ذلك القلب بعد أن ألِفَ الخوف لسنوات وكان الموقف الأخير طامة كبرى لا تنسى! ساد صمت مفعم بالقهر والذهول، لكن ضجيج الصمت بعثر كل شيء وهيمن على أديم الأرض.


مرت الأيام بطيئة ثقيلة، وقلبي ليس له من الصلابة ما يؤهله لمواساة المقربين منه، وكأن بين روحي وبين الأمان ثأر فلا يجرؤ على زيارتها، تجسَّد المشهد اللعين مرة أخرى حين كنت أحادث صديقي السوداني ونتجاذب أطراف الحديث والمرح، مدافع وأعيرة تهب من كل حدب وصوب على حين غرة، ماذا يحدث هنا؟ سمعتُ صوتاً واهناً يدغدغ أضلعي ونبضات قلبي، رغم الصخب المهيمن على الأجواء إلا أن الخوفَ كافرٌ حين يفرض سلطانه، قال صديقي بصوت مبحوح يغشاه الذهول ويلطخه البكاء والذعر:

-أوصيك بالصدقة والدعاء يا صاح، يبدو أنها النهاية، أرجوك لا تنسني واجعل لي من صلواتك نصيباً. 

ثم عمَّ صوت الرصاص والصراخ جنبات المكان وقلبي.

منذ ذلك الحين وأنا أخشى القرب من أحدهم، أدركت أن المخلصين المتحابين دون سبب كُتب عليهم الشقاء، لا قدرة لي على مفارقة أحبتي، شعور العجز عن إنقاذ ما يمكن إنقاذه شعور بشع لا شريعة له ولا دين، لكن يبقى العهد والحب بيننا رغم أنف الظروف العصيبة المفاجئة، نأمل أن يجمعنا الله في جنته حيث لا فراق ولا موت ولا وجع، حينها سيحقق لنا الرب أمنياتنا وننعم بمزيد من الهناء والسعادة.
#سعد_السعودي...

تعليقات