رسالة من ربي" بقلم: عبدالرحمن القصاص...

 كنت حينها في غرفتي، أتخبط في أفكاري، أكر وأفر، أهرب منها تارة وأواجهها تارة، أجلس على طرف السرير، أنظر للباب ذو المقبض المكسور، أحول نظري إلى خزانة الملابس التي لا يغلق بابها، أفتحها، أخرج الملابس الجديدة المعلقة، سرعان ما أدخلها، لم أعد طفلاً ليبهرني جديد الملابس ويسعدني طاقم جديد أباهي به الناظرين، الآن أظن أن السعادة أعمق من ذلك الهراء..باشمئزاز حشرت الملابس، حين تدلت ياقة القميص خارجاً دست عليها بقدمي وأدخلت باقي الملابس بنفس الطريقة، لا طاقة لي لأهتم بشيء من هذا القبيل، أطلقت تنهيدة في عدم صبر، لاحظت بعض الكتب أعلى الخزانة، أذكر أنني أخرجتها من مكتبتي ذات صباح لأقرؤها واحداً تلو الآخر، جذبتني العناوين وكأنني لأول مرة أطالعها.. "أرني الله"لتوفيق الحكيم.."إسرا.ئيل البداية والنهاية"لمصطفى محمود. "وانهمرت الدموع" وهي مجموعة قصصية من وحي الجهاد في فلسطين. "الأزهر والقدس". كتاب "التوراة" .."التجار الفاتحون".لخالد الخويطر.



تصفحت الكتب بإهتمام، أعجبت بإختياراتي وتمنيت لو تكون إختياراتي في البشر كإختياراتي في الكتب، ولكن  تصفح الأشخاص يأخذ وقتاً وربما صدمة أو حفنة من الصدمات لنعرف هل الشخص وعلاقتنا معه ضارة أم نافعة. بالإضافة إلى أن الكتب لا تضر إن لم تنفع. 

توجهت للمطبخ لأصنع كوب شاي لأرجع لأحد الكتب وأمضي معه رحلة قصيرة..

ما بال الحروف متداخلة، السطور مختلطة وكأنني لا أراها، الكلمات مملة، و....كل شئ على ما يرام المشكلة بي على ما أظن

أخذت كوب الشاي وخرجت من الغرفة، رأيت المطر يهطل بغزارة، ارتديت معطفي، وقفت في الشرفة حيث الهواء والصقيع والضجيج رغم الهدوء، الساعة تقارب الثالثة فجراً، عجوز ذو لحية بيضاء يمشي على ثلاث، يمشي بخطى حثيثة ثقيلة وكأن رجلاه تنغرس في أرض طينية ضحلة، يتمتم.. الأضواء الخافتة في الشارع تظهره بمنظر مهيب بملابسه البيضاء الناصعة  التي لم يصبها شئ من المطر، لحيته التي تتحرك بتلك التمتمات، تعجبت لخروجه في مثل هذا الوقت، مضى متجهاً للمسجد الصغير المقابل للشرفة من الأمام على بعد بضعة أمتار، مضت دقائق..راعني صوت ليس كأي صوت، صوت عجوز يخطف اللب وإن كان غير رائق، أرهفت السمع، سمعت الصوت وهو يعلو، يجذبني أكثر فأكثر، وكأنني فراشة اشتمت رائحة جورية في حقل صبار فطارت نحوها، سمعته وهو يتلو القرآن، رأيت القرآن في صورة شيخ.. لحيته البيضاء مبللة بماء أظنه الوضوء، وشعرت بالكلمات التي تُتلى وهي تحلق نحوي وبي..أسترق السمع أكثر.. تلاوة وسكون، ثم تلاوة ويزداد السكون، ثم سكون يتبعه سكون ولا صوت يعلوا فوق صوت العجوز.

ما هذا !، ما له مهاباً ذو عزة وجمال وحضور ليس كالغياب، بل حضور يلغي كل شيء، تلاشى الضجيج شيئاً فشيئاً، كان في عقلي لا في شئ سواه، وبقيت ألاحظ الشيخ الذي أراه بوضوح من بين ثنيات الشرفات المفتوحة وفراغات الجدار الواسعة أعلى جدران المسجد.

سمعته يقرأ..

"ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً. ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى"

 رحت أتأمل الآية، بالرغم من أنها مرت على سمعى مئات المرات ولكن هذه المرة مختلفة!

أنا الآن منسي أصلاً فهل سأحتمل نسياناً يوم أعرض على الله ؟رحت أبحث عن مصحف، وجدته، كان على أحد الأرفف المليئة بالغبار، مضى وقت طويل على آخر مرة مسكته فيها.

 ذهبت متوجهاً للمسجد حيث الشيخ، صوته يعلو كلما أقترب، أبتسم ثم أسرع، أكاد أنزلق لسرعة مشيي، المطر يزداد غذارة، أصل إلى المسجد، النور أمام المسجد منطفئ، تعجبت، الباب مغلق، لا آثار أقدام توسخ مدخل المسجد الحجري، ولا حذاء لصاحب القدم الثقيلة ولا لغيره، أدرت مقبض الباب، دخلت، المسجد مظلم، بحثت بكشاف هاتفي، وفتحت أنوار المسجد كلها، كان المسجد خالياً تماماً، وكأنه لم يدخله أحد منذ وقت طويل.

في المكان الذي رأيت فيه الشيخ رأيت مصحفاً مفتوحاً أول ما وقعت عيني، وقعت على نفس الآية. بكيت كمن لم يبكي من قبل، بعدها دخلت فتوضأت وخرجت مغتبطاً برسالة ربي التي لم يخطئها قلبي إلى اليوم رغم مرور سنين. 


تعليقات