(مذكرات مريض نفسي "١٢") بقلم الكاتب: سعد السعودي...



 المدخل الرئيس للبلدة يرغمني أن أمر بمنزل الأحباب صباحًا ومساء، ذلك البيت الذي حفظتْ قدماي الطريق إليه أكثر من أي مكان آخر لكثرة زيارتي له، مررتُ في هذا اليوم -المفعم بالكآبة- في الثانية بعد منتصف الليل، كانت السماء مرصعة بنجوم متباعدة متفرقة، هبَّت نسمة باردة أنعشت روحي وأفاقتها من تأثر الرحيل، ونعيقُ بومة يملأ المكان من حولي، وعواء كلب وحيد في الظلمة ربما فقد أنيسه مثلي فيزيد تشتتي رثاء له ولنفسي.

في مثل هذا الوقت اعتادت روحي الذهاب إلى هذا البيت فهي تعرف وجهتها إليه دون مرشد، رحل الأحباب منذ وقت قريب بعيد، فبدَا البيت في الظلمة كأنه مقبرة لا حياة فيها.

ظللتُ ألتفتُ حولي في دهشة انعقد لها لساني، عقلي يدرك جيدًا أنه لم يعد بالبيت سوى ذكريات جمعتنا وانقضت، وحِيطان تصدعت من فرط الحنين لساكنيها الراحلين، وباب خشبي لو نطق لباحَ شوقًا ولهفة لتجمع الرفيق برفيقه، العقل يُدرك أنه لم يعد لنا رفاق ولا أحباب، فقط هنا خيبات متراصة بجوار خيباتي السابقة، لكن القلب لا يعرف سوى أنه مُوجه صوب هذا المكان الذي اطمأن به، تصارعني قدماي إلى الذهاب نحو اللاشيء، نحو اللا أحد، وقفتُ في المنتصف العالق دَهِشًا، كافرًا بالواقع رغم وقوعه، سبقتني عيناي ترمقان المكان بدمع متجمد، رائحة الشاي على المجمرة التي لطالما شربناه معًا تلهب رئتيّ، ودخان النارجيلة يعبث بما تبقى بي من ثبات فثملتُ هيامًا وحنينًا.


بالأمس القريب كان من حسن حظي وقوع البيت على مقربة مني، لكن الآن من سوء الحظ أنه يعترض طريقي، يصطدم بذاكرتي التي تتناسى ولا تنسى، تتغاضى ولكنها لا تنسى، تصارع كي تنسى فلا تنسى!

 من المؤلم أن تتحول لحظات السعادة في حياتنا إلى ألم! أن تتحدى الأماكن التي هرعنا إليها ضعفنا! أن نهرب مما كنا نهرب إليه ولا ندري إلى أين! 

وقفتُ أتأمل درج السلم بعناية، معضلتي أنني أدمن التفاصيل وأمعن فيما بين خباياها ولا أستطيع نسيانها، هنا كنت أصعد بخطوات مسرعة يشوبها الفرح واللهفة، أطرق الباب فسرعان ما يُفتح عن رب البيت بوجه بشوش منير يصافحني بقلبه لا بيده، هنا جلسنا وتسامرنا، هنا أكلنا واحتسينا القهوة في تلذذ، حَزنَّا وفرحنا وانهزمنا، تشاركنا كل شيء، هنا اتفقنا على كل شيء إلا الرحيل، هنا ذاب القلب حبًا قبل أن يُكوى اليوم بذكريات لا ترحم، وحنين لا يمهل القلب هدنة استراحة، امضي يا قدمي فلم يعد هنا أحد، وتوقفي عن البكاء يا عيني فلا البكاء يعيد حبيبًا، واصمد يا قلبي فلا جدوى من الوحدة ولا مناص من تجرع الألم، وهوني عليك يا روح فلعل الأقدار تهيئ لنا لقاء عما قريب.

#سعدالسعودي

#مذكرات_مريض_نفسي

تعليقات