أدركت أن تربية الأبناء أمر صعب ومرهق، دائمًا ما أتذكر طفولتي وأحلامي البسيطة التي اقتلعت من جذورها تحت مقولة ماذا سيقول عنك الناس؟
في المدرسة كنت أحلم بأن أرتدي حقيبة ظهر كباقي الزملاء، لكن قواعد أسرتي ترى أن حقيبة القماش أفضل وتعيش أكثر، وأن أرفل في جلباب واسع يكفيني لسنوات خير من أي قميص مثل هؤلاء، لطالما تعرضت لانتقاد المدرسين وزملائي، وكان التعبير عن الرأي بالرفض هو بمنزلة الاحتجاج على الرئيس بل أدهى وأمر، وأن هذا المدرس تربطنا به صلة قرابة فلا يصح أن تذهب لسواه، كنت وحيدًا وسط الجميع، يختلف ثيابي وطعامي وأدواتي عن الجميع، لم تتوافر لي رفاهية الاختيار ولا الاعتراض على شيء يؤذيني، تلبية النداء والسمع والطاعة دون تفكير كجندي في معركة لا بد أن يسير وفق إرادة القائد إذ لا خيار سوى الخضوع من أجل حياة الموت أفضل منها.
كبرتُ وكبرت الندوب معي لا تفارقني، أحاول أن أُخمد براكين الألم وأحلام الطفولة التي تصارعني دون جدوى، بين ماض فقدت به براءتي وحاضر تغيرت به رغما عني مر العمر دون شعور مني، أصبحت لا أملك حرية الاختيار بعد أن فوجئت بأنني صاحب القرار في مصيري ومصاير مَن حولي، أقود حيوات الناس وأنا الذي أبحث عن مرشد يرشدني في حياتي المعتمة، فعلام البكاء إذا خسر المرء أحلامه، وما فائدة الحزن على أشياء لن تعود؟!
الآن كلما مررتُ بزقاق وشارع رأيت أحد الآباء يصرخ في ولده كي يذهب إلى ذاك الأستاذ، أو ألا يخرج من البيت، وأن يرتدي ملابس ليست من اختياره، أضمر الأسف والرثاء في نفسي، أعود إلى غرفتي محملًا بذكريات الخيبة التي صاحبتني منذ عقدين وكأنها حدثت أمس، أنظر إلى الطفل المسكين الذي يفقد حريته شيئًا فشيئًا وتتحدث عيناي من دون اللسان برثاء: مرحبًا بك أيتها الضحية القادمة، إن كتبت لنا الأقدار لقاء ستجدني بانتظارك في نهاية المطاف على قارعة الطريق أبكي حدادًا على الذي كان بوسعه أن ينقلنا إلى مكانة مرموقة لكن لم يُسمح لنا به، ربما حينها ستكونُ شابًا شاخ قلبه، ويكون الشيب قد غزا شعر رأسي لكن قلبي ما زال يتشبث برمق الطفولة، حينها نواسي بعضنا في ضجيج الصمت ولعنة أخطاء السالفين، حينها سنرفع راية الاستسلام ونكتفي بهدنة طمعًا في رحمة الأقدار بقلوبنا المنهكة.
#مذكرات_مريض_نفسي
#سعدالسعودي