أسدل الليل سكونه على جنبات القرية فأغلق طياتها بين الظلام الدامس، غشى ضباب الشتاء قمم الأشجار وأديم الأرض، في هذا الهزيع الأخير من الليل حيث ترقد أجسام في مستقر الصمت والهدوء، وتألف أرواح ذلك الصمت فتدب الحياة بأوصالها، أحب المسير في هذا الوقت حيث يكون الكون نقيًا من أنفاس البشر، ولم يكن من حي في هذا الخلاء عدا الكلاب تهيم في الأزقة، تلتقط الرزق في مأمن من بطش البشر الذين يطاردونهم بلا رحمة.
نبَش الحنين أعماقي فكشف عن ذكريات دفينة ما زالت تصارعني، هاجت ذكريات الطفولة دون حسبان أو توقع، هنا كنا نمرح تحت المطر حتى تتشقق أقدامنا، لم نكن نهاب الصقيع لأن الدفء يملأ قلوبنا، هنا كانت حقول عامرة بعبق الأزهار ورائحة الطبيعة الخلابة، هنا كانت المواقد تحمل أباريق الشاي فنثمل برائحتها، هنا كنا نتسابق لجمع التمرات الساقطة من النخيل الشامخ.
نتشارك يوم الجمعة في الغداء ببعض حبيبات الطماطم والجبن، ونحلي بالبطيخ، نستحم في القناة التي لها من العمر سنوات وسنوات، هنا كانت تعريشة العنب أمام كل دار نجلس تحتها، وكوة في كل دار يتبادل الأهالي منها الطعام، هنا كان القريب الذي يسكن بعيدًا يقطع المسافات لزيارتنا فنحلق حوله في حب ونتقاسم الحلوى، نبني أكواخًا من الحطب ونتزمل داخلها بأنفاس البراءة، هنا تعلمنا جدتي أن أبناء العم هم إخوة فلا تقل ابن عمي قل أخي، وهذا العم الحنون الذي يزورنا ويستقبلنا مبتسمًا بوجه بشوش قل أبي لا تقل عمي.
هذا المقهى البسيط بأبوابه الخشبية نتجمع به ليلة العطلة في فرحة، ذلك المصلى الصغير أعمدته من جذوع النخل، نتوضأ من القناة ونصطف في حب ويمتلئ عن آخره.
الآن عقلي البائس يصارعني، ما هذه الأبنية المطرزة بالعمار من الخارج الخربة بالحقد من الداخل الخالية من الحب؟ بواباتها مغلقة حتى في وضح النهار، يتوارى ساكنوها خلف سياج المجهول كأنهم لا يريدون رؤية أحد، وهذا الضيف القريب لمَ لم يعد يأتي ولا نعرف عن أخباره شيئًا، وأين النخيل وأشجار العنب ورائحة الياسمين والقنوات؟ كل هذا أبيد لأجل لعنة العمار المزعومة! غدا المصلى الصغير مسجدًا كبيرًا لكن أين المصلون! شغلتهم الحياة! هل يعود الماضي إلى ما كان عليه؟ وإن عاد فمن يعيد الألفة والحب بعد أن جدبت القلوب وملأها حب الذات والأنانية؟!
#مذكرات_مريض_نفسي
#سعدالسعودي