إلى القاريء المفكر الذي اطَلع على الآداب الغربية، فسحرته أنغامها العديدة، وهاله خضمها الزاخر الجياش بشتى إحساسات الحياة وخوالجها ومثلها الرائعة، وعطف على الآداب العربية فأحرج صدره ما فيها من الخلط وسوء الاختيار فعزف عنها مزدريا ناقمًا وله بعض العذر، واندفع متهافتا على الأدب الغربي، الذي وجد فيه لكل خالجة وترا، تشجيه أنغامه، وتملأ فراغ نفسه وتحلق في أسمى ملكوت تطمح إليه، إلى هذا القاريء أقدم لك هذه الرواية الذي أرى فيها فن الأدب العالمي، أجرؤ فأزعم لا متحمسًا للغتنا ولا متعصبًا لآدابنا، ولا مجازًا في زعمي، أنها لا تقل عن ما يقدمه لنا أفضل كُتاب الغرب المفكرين، وهنا سأمسك القول حذرًا من الإسراف والشطط. (1)
اسم العمل: عناق برائحة الورق.
اسم المؤلف: منى سلامة.
عدد الصفحات: 320.
التصنيف: أدب الديستوبيا.
دار النشر: عصير الكتب.
عن الرواية:
على ظهر الرواية تضع لك الكاتبة كلمات تقول أين يمكن لرجل و أمرأة أن يتصادفا؟ على حدود متراخية، أو في مروج مترامية، مقعد دراسة أو طاولة عمل، ميدان أو زقاق، حفل أو عزاء، في طائرة أو حافلة، أما إن كان أحدهما كاتباً، تتعلثم الأبجدية، وتنفتح أبواب عوالم سحرية، فيلتقيان في أكثر الأماكن غرابة، و أشدها مهابة، مثلاً في البلد الذي يَمنع النطق بالحاء، حيث شرطة رقابة الابجدية وقوانين صارمة تُجرِّم تداول الكلمات الحائية.
لا تدعها تخدعك فالأمر لم يكن في تلك الثمان سطور، الأمر لم يقف عند البلد التي تمنع الحاء ولا شرطتها ولا الرجل والمرأة الذي يلتقيان، في الداخل أنت البطل وأنت من ستختار كاتبك الذي تقرأ له فهل تقرأ ل "م. س" أم "ش" أم "ك" أم "ص" أم "ر" .. لا تقلق من كثرة الأسماء الأمر سهل والأهم أنك ستكون البطل المتحكم في كل ذلك ولكن! بطل وهمي ستشعر بالضعف والخواء لأنك بين الهامش الأول والهامش الأخير ستجد نفسك ضحية مثل كل هولاء الذي ذكرتهم لك في الأعلى وأن الذي يحرك كل خيوط الماريونيت هو نفس الشخص الذي أعلن في يناير 2022 بأن روايته محبوسة في الدرج.
التصنيف:
الرواية تندرج تحت أدب الدّيستوبيا ومن لا يعرفه فأفضل أعمال ذلك النوع -من وجهة نظري- هي 1984 للعبقري أورويل تليها فهرنهايت 451 لبرادبري عالميًا أما عربيًا في ممر الفئران للعراب وحرب الكلب الثانية لابراهيم نصر، لكن كل تلك الروايات لها فنًا خاص في تقديم الديستوبيا ولا أريد المقارنة بينهم وبين "عناقي" لأن الأسلوب التي حاكت به منى سلامة فكرتها فريد ومتنوع خدمها جدًا لتنسج روياتها في أفضل وأغرب ثوب بالإضافة للواقعية السوداء التي تزرعها في شخوصها.
نقاط النقد:
في التعليقات لمن يهتم بالإطلاع عليها.
الحبكة:
عندما يأتي لك الطرف الأول من الحبكة على لسان المجهولة ستشعر بالخلاء، ماذا حدث لافكاري لتخيلاتي وترتيباتي، كيف فعلتها بذلك الطريقة، كيف تتجرأ من الأساس في الدخول إلي تلك المحاور المحذورة التي تجعلني كقاريء عاجز عن الحديث عن الحبكة، وكيف سأتحدث عن شيء لا اعرف أين بدايته وكيف نهايته، كيف أكتشف ركن داخل دائرة، هذه من أفضل الحبكات التي صيغت لرواية من ذلك النوع أن تجعل القاريء مشتت ينتظر منك كيف ستنهي روايتك بعد تعقيدها له فأكاد أجزم أن آخر 50 صفحة من الرواية تجعل القاريء يخوض معركة ذهنية مع الكاتب قد تؤدي لجنونه، معركة غير متكافئه بين كاتب يكتب بكل هدوء وبراعة وقاريء يقرأ بكل ثيران وحماس والاثنان يجمعهم الحب والشغف.
إشادة رنانة:
في هذه الرواية تثبت منى سلامة بأنها ليست كاتبة فقط، بل مفكرة حاذقة متنوعة تطوف في كل خيوط الأدب بمرونة وتنسج للقاريء تحليلات من لُب عقل الكاتب وكيف يتلاعب بالكلمات ثم بالفصول ثم بالحبكة ثم بالقاريء، تفهم القلم الذي تمسكه جيدًا، وتتعامل معه بطرق جديدة متطورة، تجعلها الحاكم والمحكوم عليه، تضمن لها أن يكون أسلوبها وحبكتها غير قابلة للتوقع، بعيدة كل البعد عن الاستنتاج، ترسم الخطوات تحت نظرات القاريء وحينما يشعر بأنه عرف كيف تدور العجلة فتبتسم له قائلة "طريق السلامة أنت يا فواز يا أخويا" ثم تحطم كل استنتجاته، فمبارك لمن طوع السحر لامتاع القُراء، مبارك لمن يراوغ الأحرف ويتلاعب بالكلمات وحتى الفواصل، مبارك لمن يملك مدرسة كتابية في عقله يعرف كيف يوظفها (2).
تفاصيل سجلها قلمي أحببت إضافتها:
ذكرتني البلد التي تمنع النطق بالحاء في عناق بالبلد التي يحكمها الأخ الكبير في 1984 أورويل، وذكرني الطوق المثبت في رقبة صهيل ورفاقة ليلتطقت أي حاء تُلفظ بشاشة الرصد التي كانت في كل مكان حول وينستون ورفاقه تننتظر أن يتفوه أي منهم بكلمة تخص الحاكم ودولته، وشعرت بأن وزارة الحقيقة هي شرطة الأبجدية، ورأيت شجرة دردار عناق تعانق شجرة طاقة قزم مينورا وينظر لهم من بعيد شجرة يقطين طائر الدودو.
كلمة أخيرة:
وددت في البداية كتابة المراجعة كاملةً بدون حرف "الحاء" وقبل أن أشرع في ذلك توقفت وفكرت وجدت الوضع صعبًا بل مستحيل كيف سأتحدث عن الحبكة وجمالها وقصص حب كي وري ومؤيد ونداء وعن كتابة اسم العمل، اللغة وحروفها لهم قيمة كبيرة وغنية بالجذور لا استطيع عن الاستغناء عنهم.
ختام:
لم اقرأ للكاتبة غير 3 أعمال لكني حسمت قراري مبكرًا، أيها السادة هذا أفضل عمل لمنى سلامة.
(مع حفظ الألقاب والمقام لكل مرة كتبت اسم الدكتورة بدون لقب)
#عناق برائحة الورق.
#خالد_ أبو_ جمال