لم استطع أن أخفي قصته، قصته التي أصبحت جزء من وجداني، دونت ما دونت من أفكار في مذكراتي تلك، ولكن قصة فاروق عريس جنين الذى ارتقى لعرس أسمى وحفل أعظم تستعصي على النسيان وتأبى إلا أن تذكر بجميل البيان ولتعزف على تفاصيلها أنات القلوب وصرير الأقلام، أنا أبو نضال..وتلك حكاية من حكاياتي الكثيرة التي ازدحم بها عمري وفاضت بها أوراقي، ورغم كون تلك الحكاية ماضٍ إلا أنها لا زالت في نفسي وروحي حاضراً أعيشه، وهذا شأن الذكريات العظيمة والأحداث الجليلة والأشخاص الذين خلقوا ليخلدوا، أشخاص صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فبقت حكاياتهم نابضة بين الخلائق لا تموت، بل تتوارثها الأجيال جيلاً وراء جيل، حكاية فاروق، ذلك الشاب المازح الضاحك ذو الوجه البسام والحس الفكاهي الرائق من ضمن تلك الحكايات التي تتوارثها الأجيال، وكان من حسن حظي أو سوءه ربما، أني عاصرتها وشهدت على تفاصيلها كلها وعرفت فاروق عن قرب، ولكن العجيب أن المزاح الصاخب الذي كان يعرف به فاروق لا يشبه أبداً تلك القصة المليئة بالحزن والشجن الغريب.
فلأقصها عليكم الآن بشئ من التفصيل..ولكن عِدوني، عِدوني ألا تتوقف تلك القصة عندكم، بل انشروها كما تُنشر قصص الزعماء والمناضلين، انشروها كما تستحق أن تُنشر قصص الشهداء!
كان شاباً يقول للهم روِّح عن نفسك يا حزين، محب للحياة بكل سنتيمتر في كيانه، خفيف الظل وإن لم يكن لخفة الظل جاذبية لكان طائراً، يستطيع أن يخرج من الجملة الواحدة نكات بعدد شعره رأسه الكثيف، عنيد للغاية وكأن عقله صُنِّع من البساطير القديمة، يحب الضحك كحبه للسيارة التيوتا التي أكل عليها الزمان وشرب وأخذ قيلولة أيضاً، مغرم بالأغاني الفلسطينية الحماسية فكان يشغلها بداع وبدون داعِ.
لم يفكر في بيع تلك السيارة أبداً رغم أنها تبدو للناظر لها من بعيد وكأنها نصف سيارة دون مبالغة، فالنصف الأمامي منها تقريباً غير موجود لشدة ما هو متهالك، هذا يعطيك انطباع للوهلة الأولى بأنه متعلق بممتلكاته، ولكن السبب الأوحد الذي يجعله مبقياً على تلك السيارة في حوزته هو عنداً في الناس الذين طالما نصحوه ببيعها. كان الأمر عادياً إلى أن اشترى ذلك الكاسيت ذو الصوت الجهوري والذي اتوقع أنه اشتراه بثمن يفوق الثمن الذي تساويه تلك السيارة الميتة اكلينيكياً.
مر بسيارته ذات الكاسيت الزاعق بقوة تلهب الحماس (في الظروف الطبيعية) بإحدى أغاني الإنتفاضة الفلسطينية، حيث صوت جبلي جهوري يغني:
(اسمع مني وشوف الجد رجال الضفة ما بتنعد أبو سرحان يجيب الرد فجرها ثورة سكين..
ركز تنعيد الأمجاد دي حكاية عز وجهاد بالكارلو زغرد عماد وأسقطهم جوا الكمين)
قفزت من على السرير غاضباً منزعجاً من تطيير النوم من عيني كشخص مقبل على إحداث جريمة، لدرجة أن أم نضال زوجتي المصون قامت فزعة وقد خمنت أن ثمة مصيبة ستحدث.
-اهدا يا أبو نضال .. شوي وبيروح متل عادته..بتعرف فاروق وعناده مَنَّك تايه عنه
خرجت ونويت أن أمزقه إرباً إرباً بلساني على الأقل:
نظرت من الشباك فرأيته يقود سيارته ببطئ ..
قلت:
-نحنا مقدرين حسك الوطني يا أستاذ فاروق بيك بس مو لدرجة انو تزعج خلق الله الساعة ٣ صباحاً..
طل برأسه كثيفة الشعر من شباك السيارة المتهالك والذي أكله الصدأ، وقال مبتسماً وهو يغمز بعينيه العسليتين بوقاحة..
-حقك ع راسي يبو نيضال...كنت ناوي أشغلك أغاني رومانسية تليق بمكالمة الصبح بس للأسف نسيت..بكرا بنعوضها إن شاء الله..
على إثر تلك الجملة تحولت نظرات أم نضال من حالة الإنقاذ إلى حالة تنبئُ بهجومٍ مُنتظر، ..وصارت تحدجني بنظرات شكٍ وهي تضع يدها على اسفل ذقنها بشكل يوحي للرآئي بأنها تقول:
:سكوووت أنتما الإثنين الآن...دعنا نرى شو قصة هاي المكالمة يلي بتستدعي أغنية رومانسية ثم أكملا شجاركما)
كان قد رآني فاروق وأنا أكلم احدى النساء دائمي الشراء من محل العطارة الخاصة بي، وكنت أتودد قليلاً في الحديث... فظن بي الظنون الوغد!
لما رأيت الطاولة تتأرجح لتنقلب علي، قلت الطيب أحسن، ومن الأفضل أن أنهي الموضوع قبلما يتفوه ذلك الكائن الفضوحي بما يفتح عليَّ أبواب نكد لا تغلق بسهولة، وفي الحقيقة سيصير عندها حق في كل الأحوال، حتى وإن أتيت بأهل جِنين شهود، هي موهوبة في العطاء والحب والكتابة والنكد.. إنها سَحَر.. تلك الثلاثينية التي نفخ الله من خلالها في قلبي منذ عقد إلا عامين فأينع وأزهر من بعد موت..
قلت محدثاً فاروق:
-بتعرف يا فاروق يا صاحبي عندي تشكيلة أغاني ثورية رح تعجبك كتير...ابقى مر علي الصبح بالمحل بعطيك ياها .. يلا بخاطرك.. تصبح على خير
هممت بالدخول فجذبتني من طرف العباءة الصيفية حتى كادت أن تقطعها، فخرجت ضحكة قوية مني لم أستطع كبحها..
-مين يلي كنت بتكلمها في التليفون يا سعيد؟
-زباين المحل كتار .. و..
قاطعتني..
-كنت بتتكلم مع زينب يلي بتتصل فيك من سنة وبتسألك عن أصناف بطلت المصانع تصنعها أصلاً..صح !!
دخلت غاضبة..وبقيت متسمراً في مكاني إلى أن أشرقت الشمس الكئيبة وقد أنهيت علبة السجائر وأنا أفكر في طريقة ما لاسترضاءها، فلم أظفر بشئ ولم يجود عقلي بأي فكرة وكأنه عزم أن يعاقبني..
*******
حين خَطَب فاروق كان لذلك تأثيراً بليغاً عليه، حيث اهتم بمظهره بشكل ملفت، أصبحت ملابسه أشبه بملابس أعضاء الكونجرس، حتى طريقته في الكلام تهذبت ظاهرياً بعض الشئ، إلا أنه لم يغير سيارته رغم ذلك، فأراه دائماً يقودها ذاهباً إلى بيت خطيبته كل يومٍ بعد صلاة العشاء مباشرة، تخيل معي..سيارة مفرغة تقريباً من كل الجوانب، بلا زجاج، لو أمطرت السماء تصبح ملابسه كلها متشربة بالماء..ورغم ذلك يمر بها ويوقظ النيام بما يشغله من أغاني، أدفع نصف عمري وأعرف من أين أتى بتلك الثقة!
مر علي ذات صباح بينما كنت في المحل، كنت حينها أسقى الورود التي اشتريتها مؤخراً عملاً بطلب سحر، التي اشترطت أن أزرع الورود أمام المنزل والمحل حتى ترضى، فلم أكذب خبراً واشتريت أرقى أنواع الورود وزرعتها.
-أهلين أبو نيضال الجميل...
-يا هلا بالعريس ... ايش هالشياكة هَي...الله يرحم أبوك عاش على قد ما عاش وما شوفته غير بتلات عبايات..والتلاتة كانو نفس اللون والنوع
أطلق ضحكة طويلة وقال
-أيامكم غير أيامنا يا عم أبو نضال...
وأضاف وهو يعدل من ياقة قميصه الأسود الذي به لمعة خفيفة :
-وبعدين نحنا بأيام الحب والمشاعر وهيك شغلات...اه..أستأذنك تغير اسمي عندك بالتليفون من فاروق الأزعر إلى فاروق حبيب سارة...بتعرف وضعي الاجتماعي لا يسمح بإنو حدا يحاكيني أزعر وهيك شغلات
تناولت المقشة من أمام المحل وهممت ضاحكاً لأضربه فجرى وهو يضحك، وأنا أرد السلام والصباحات على أبو يوسف ومنصور اللذان شاركانا الضحك بينما هم مرور من أمام المحل..قال فاروق موجهاً الكلام لهما:
-عاجبكم هيك...والله نبطلها شغلة الارتباط هاي..ما عادت تجيب همها
اقترب وكأنما تذكر لتوه شيئاً هاماً، وهو يحيط يده على رقبتي ويصحبني إلى داخل المحل ويهمس:
-بما انك خبير وتزوجت أم نيضال عن حب وهيك..شو بتحب البنات برأيك ها؟ بتعرف انو زواجي بكرا وبدي أجيب هدية لم يأت بها العشاق الأوائل..
-على حسب..كل بنت لها تفضيلاتها فيه بتحب الرسايل المكتوبة وفيه بتحب هدايا الأكل والحلوى والشيكولاته وفيه بتحب الورد
-طيب بدي ٢ كيلو شيكولاته من عندك
-بكرا بجيب ان شاء الله..نفذت من المحل
-ما بيصير .. بحكيلك فرحي بكرا يا عم سعيد..شوف أيا اشي عندك
-ها المحل قدام عينك شوف ولو لقيت شي مناسب اعتبره هدية مني لإلك
مشى وهو يتمتم، فتذكرت فترة خطوبتي بسيدة الحسن والجمال في جنين وما حولها، فخر الصناعة الفلسطينية، كنت في مثل حالته وحيرته بل أكثر بكثير، كنت أود اسعاد سحر بأي طريقة ممكنة، أي شئ أعرف بالصدفة أنها كانت تفضله كنت أحضره مراراً دون مللٍ مني أو اكتفاءاً منها، ابتسمت وخرجت من المحل فذهلت وأنا أرى فاروق قد قطع كل الأزهار التي زرعتها وربطها بخيط، سحبت المقشة ثانياً ولكن هذه المرة لأكسرها عليه، فجرى ثانياً وهو يقول : منتا الي قولت البنات بيحبوا الورد!
*****
كنت جالس أمام التلفاز وأذني منصتة لصوت الميكروفونات التي لم تتوقف عن زف الشهداء منذ عام ١٩٤٨، ولكن هذه المرة الشهيد هو قطعة من يومي وفؤادي، ابني وصاحبي الذي لطالما كنت أعامله كأب حتى في حياة والده، لصلتي الوطيدة به...كان الشهيد هو فاروق ليس فاروق الأزعر ولا فاروق حبيب سارة بل فاروق البطل!
كان آتياً من بيت خطيبته في الثانية بعد منتصف الليل، لمح قوات خاصة اسرا.ئيلية تقترب من بيت أحد قادة المقاومة في جِنين، كان هدفهم اغتياله، لم يتردد لحظة وأدار فيهم الدهس، تلقى رصاصة في كتفه، ولكن يداه الأخرى كانت متمسكه.. كعينيه وهو يزيد من سرعة السيارة ليعيد الكرَّة، في المرة الأولى دهس ثلاثة جنود فقتلهم جميعاً وفي الثانية أصاب جندياً، قبل أن تنهال عليه الرصاصات تغزو جسده النحيل الممتلئ بالحياة، مثلما كان وجود الصه.اينة على أرض فلسطين منبتاً للشهداء والرجال الصادقين الذين يبرهنوا أن الأمة لا زالت حية على مر السنين، أبت الرصاصات الإحداعشر المتفرقات في جسده والقاتلات إلا أن تجعله يَرتقي..
كنت جالس على السرير، أبكي بحرقة ولوعة لفراقه ولكني كنت أغبطه على المنزلة التي نالها، كانت سحر تشاركني الدموع وهي تمسح على كتفي بحنان..
-فاروق كان فرحه بكرا...هسه واخد مني ورد
قالت ولا زالت الدموع بعينيها ويدها بكتفي:
-عرسه بالجنة أكتر فرح وبهجة وإن شاء الله يشفعلنا...او نلحقه بالشهادة يا أبو نيضال..
كانت جنازته مهيبة عظيمة، آلاف يزفونه إلى عرسه، كانت أمه تتقدم الجنازة وهي تعنِّف كل من يبكي، وهي تردد بقلب صابر..
-زواجه عليك يارب...وحق حبيبك محمد لتزوجه من الحور العين..
كان شاباً يقول للهم روِّح عن نفسك يا حزين، محب للحياة بكل سنتيمتر في كيانه، خفيف الظل، وإن لم يكن لخفة الظل جاذبية لكان طائراً، يستطيع أن يخرج من الجملة الواحدة نكات بعدد شعره رأسه الكثيف، عنيد للغاية وكأن عقله صُنِّع من البساطير القديمة، يحب الضحك كحبه للسيارة التيوتا التي أكل عليها الزمان وشرب وأخذ قيلولة أيضاً، مغرم بالأغاني الفلسطينية الحماسية فكان يشغلها بداع وبدون داعِ.
كما أن سيارته ظلت بعد شهادته أمام الدار على العهد، وبداخلها الكاسيت يوقظني مع الفجر كل يوم على أغنية :
أخي سوف تبكي عليك العيون... وتسأل عنك دموع المغيب
فإن جف دمعي سيبكي الغمام..يرصع قبرك بالياسمين.
#من حكايات أبو_نضال